كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كان المسلمون إذا بطل الوحي يقولون: هلّا نزل شيء، تأميلا أن تنزل عليهم بشرى من اللّه وفتح وخير وتخفيف {فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} أي محدثة. وسميت المحدثة: محكمة، لأنها حين تنزل تكون كذلك حتى ينسخ منها شيء. وهي في حرف عبد اللّه {فإذا أنزلت سورة محدثة وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ}، أي فرض فيها الجهاد {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك ونفاق {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون نظرا شديدا بتحديق، وتحديد، كما ينظر الشّاخص ببصره عند الموت، من شدّة العداوة. والعرب تقول: رأيته لمحا باصرا أي نظرا صلبا بتحديق. ونحوه قوله: {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ} [القلم: 51]، أي يسقطونك بشدة نظرهم، وقد تقدم ذكر هذا.
ثم قال: {فَأَوْلى لَهُمْ} تهدّد ووعيد. وتمّ الكلام، ثم قال: {طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} وهذا مختصر، يريد قولهم قبل نزول الفرض: سمع لك وطاعة.
{فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي جاء الجدّ كرهوا ذلك، فحذف الجواب على ما بينت في باب الاختصار.
ثم ابتدأ فقال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ}. ثم قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}، أي انصرفتم عن النبي، صلّى اللّه عليه وسلم، وما يأمركم به {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}، يريد فهل تريدون إذا أنتم تركتم محمدا، صلّى اللّه عليه وسلم، وما يأمركم به- أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر، والإفساد في الأرض وقطع الأرحام؟
في سورة ق: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (24) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق: 21، 29].
السائق هاهنا: قرينها من الشياطين، سمّي سائقا، لأنه يتبعها وإن لم يحثّها ويدفعها. وكان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم، يسوق أصحابه، أي يكون وراءهم. والشّهيد: الملك الشاهد عليها بما عملت.
يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا في الدنيا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَك}.
أي: أريناك ما كان مستورا عنك في الدنيا.
{فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي: فأنت ثاقب البصر لمّا كشف عنك الغطاء.
{وَقالَ قَرِينُهُ} يعني: الملك.
{هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ} يعني: ما كتبه من عمله، حاضر عندي.
{أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} يقال: هو قول الملك، ويقال: قول اللّه جل ذكره.
{وقالَ قَرِينُهُ} من الشياطين: {رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيد}. وهذا مثل قوله سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} [الصافات: 22] يعني: قرناءهم. والعرب تقول: زوّجت البعير بالبعير، إذا قرنت أحدهما بالآخر. ومنه قوله: {كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)} [الدخان: 54] أي: قرنّاهم بهن.
ثم قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)} [الصافات: 27، 31] يعني: نحن وأنتم ذائقون العذاب، وقد تقدم تفسير هذا.
قال اللّه تعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28] يعني: المجرمين وقرناءهم من الشياطين {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 28، 29]. أي: لا يغيّر عن جهته، ولا يحرّف، ولا يزاد فيه ولا ينقص، لأنّي أعلم كيف ضلّوا وكيف أضللتموهم.
{وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29].
في سورة الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1، 5].
كانت (فارس) غلبت (الروم) على أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم من سلطان فارس، فسرّ بذلك مشركو قريش.
وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على أهل فارس، لأن الروم أهل كتاب، وأهل فارس مجوس، فساءهم أن غلبوهم على شيء من بلادهم، فأنزل اللّه تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي: والروم من بعد أن غلبوا سَيَغْلِبُونَ أهل فارس. وغلبهم يكون للغالبين والمغلوبين جميعا، كما تقول: والشهداء من بعد قتلهم سيرزقون، أي: من بعد أن قتلوا فِي بِضْعِ سِنِينَ والبضع: ما فوق الثلاث ودون العشر. فغلبت الروم أهل فارس وأخرجوهم من بلادهم يوم الحديبية. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي: له الغلبة لمن شاء من قبل ومن بعد {وَيَوْمَئِذٍ} أي: يوم يغلب الروم أهل فارس {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أهل الكتاب على المجوس.
قال الشّعبي في سورة الفتح: أنزلت بعد الحديبية، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبايعوه مبايعة الرّضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الرّوم على فارس، وفرح المؤمنون بتصديق كتاب اللّه، وظهرت الروم على المجوس.
في سورة القصص: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:85، 86].
معاد الرّجل: بلده، لأنه يتصرّف في البلاد، ويضرب في الأرض ثم يعود إلى بلده. يقال: ردّ فلان إلى معاده، أي ردّ إلى بلده. ومثله قولهم لمنزل الرجل: مثاب ومثابة، لأنّه يتصرّف في حوائجه ثم يثوب إليه.
وكان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم، حين خرج من مكة إلى المدينة اغتم بمفارقة مكة، لأنّها مولده وموطنه ومنشؤه، وبها أهله وعشيرته، واستوحش. فأخبره اللّه سبحانه في طريقه أنّه سيردّه إلى مكة، وبشّره بالظهور والغلبة.
وفي الآية تقديم وتأخير، والمعنى: إنّ الذي فرض عليك القرآن، أي جعلك نبيّا ينزل عليك القرآن وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبيّا يوحى إليك الكتاب- لرادّك إلى مكة ظاهرا قاهرا. وهو معنى تفسير أبي صالح ومجاهد.
وقال الحسن: معاده: يوم القيامة ووافقه على ذلك الزّهري وروى عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال: هذا مما كان ابن عباس يكتمه.
في سورة الجن قال أبو محمد: في هذه السورة إشكال وغموض: بما وقع فيها من تكرار إنّ واختلاف القرّاء في نصبها وكسرها، واشتباه ما فيها من قول اللّه تعالى وقول الجن، فاحتجنا إلى تأويل السورة كلّها.
قال تعالى لنبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وكانوا استمعوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] يعني أنهم قالوا ذلك لقومهم حين رجعوا إليهم. واعتبار هذا قوله: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} ثم قال: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
ثم قال: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3)} [الجن: 3] يقال: جدّ فلان في قومه: إذا عظم عندهم.
ثم قال: {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)} [الجن: 4] أي: جاهلنا يقول شططا، أي: غلوا في الكذب والجور.
ثم قال: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5]. يقولون: كنا نتوهم أنّ أحدا لا يقول على اللّه باطلا. يريدون: إنّا كنا قبل اليوم نصدّقهم ونحن نظن أن أحدا لا يكذب على اللّه. وانقطع هاهنا قول الجن. و إن في جميع هذا مكسورة إلا (أنّه استمع).
وقال اللّه تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] فإن شئت أن تنصب وَأَنَّهُ وتردها إلى قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، وأنه أوحى إليّ أنه كان رجال- نصبت. وإن شئت أن تكسرها وتجعلها مبتدأة من اللّه سبحانه، فعلت. وكان الرجل في الجاهلية إذا سافر فصار إلى موضع مقفر موحش لا أنيس به، قال: أعوذ بسيّد هذا المكان من سفهائه. يعني سفهاء الجن ويعني بالسيد: رئيسهم. يقول اللّه عز وجل: {فَزادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] يريد أنهم يزدادون بهذا التعوّذ طغيانا وإثما فيقولون: سدنا الجن والإنس.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن: 7] يقول: ظن الجن كما ظننتم أيها الإنس أن لا بعث يوم القيامة. أي كانوا لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون به. وانقطع هاهنا قول اللّه تعالى. وقال الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)} [الجن: 8].
و(إنّا) مكسورة نسق على ما تقدم من قولهم. يريدون: حرست بالنجوم من استماعنا وكنا قبل ذلك نقعد منها مقاعد للسمع. وروى عبد الرّزّاق عن معمر أنه قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ فقال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا} [الجن: 9]. فقال: غلّظت وشدّد أمرها حين بعث النبي، صلّى اللّه عليه وسلم.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري، عن علي بن حسين، عن ابن عباس أنه قال: بينا النبي، صلّى اللّه عليه وسلم، جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم. في حديث فيه طول اختصرناه وذكرنا هذا منه لندلّ على أن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكنه لم يكن مثله الآن في شدة الحراسة قبل مبعثه، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث منعت من ذلك أصلا.
وعلى هذا وجدنا الشعراء القدماء، قال بشر بن أبي خازم الأسدي وهو جاهلي:
والعير يرهقهما الغبار وجحشها ** ينقضّ خلفهما انقضاض الكوكب

وقال أوس بن حجر، وهو جاهلي:
وانقضّ كالدّرّيّ يتبعه ** نقع يثور تخاله طنبا

وقال عوف بن الخرع، وهو جاهلي:
يردّ علينا العير من دون أنفه ** أو الثّور كالدّرّيّ يتبعه الدّم

وفي أيدي الناس كتب من كتب الأعاجم وسيرهم: تنبىء عن انقضاض النجوم في كلّ عصر وكلّ زمان.
ثم قالت الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ حين اشتدت حراسة السماء من استراق السمع أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] أي خيرا.
ثم قالت الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} بعد استماع القرآن: {وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ} أي: منّا بررة أتقياء، ومنا دون البررة، وهم مسلمون و{كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] أي: أصنافا، وكلّ فرقة قدّة، وهي مثل قطعة في التقدير وفي المعنى، فكأنّهم قالوا: نحن أصناف وقطع ثم قالت الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ} [الجن: 14] أي: الكافرون، الآية. وانقطع كلام الجن.
وقال اللّه تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا (16)} [الجن: 16] أي: لو آمنوا جميعا لوسّعنا عليهم في الدنيا. وضرب الماء الغدق، وهو الكثير، لذلك مثلا، لأنّ الخير والرّزق كلّه بالمطر يكون، فأقيم مقامه إذ كان سببه، على ما أعلمتك في المجاز.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 17]. أي لتختبرهم فنعلم كيف شكرهم.
وفيه قول آخر، يقول: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا} [الجن: 16] جميعا على طريقة الكفر: لوسّعنا عليهم وجعلنا ذلك فتنة لهم و أن منصوبة منسوقة على ما تقدّم من قوله سبحانه.
ثم قال: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا} [الجن: 17] أي يدخله عذابا شاقا. يقال: سلكت الخيط في الحبّة وأسلكته: إذا أدخلته، ومنه سمّي الخيط سلكا، تقول: سلكته سلكا، فتفتح أوّل المصدر. وتقول للخيط: هذا السّلك، فتكسر أوّل الاسم، مثل القطف والقطف. ومن الصّعد قيل: تصعّدني هذا الأمر، أي شقّ علي. والصّعود: العقبة الشّاقة. ومنه قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} (17) [المدثر: 17].
ثم قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18] بنصب أنّ نسق على ما تقدّم من قوله: يريد أنّ السجود للّه، ولا يكون لغيره، جمع مسجد، كما تقول: ضربت في البلاد مضربا بعيدا، وهذا مضرب بعيد.
ثم قال سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19] بنصب أنّ نسق على ما تقدم من قوله سبحانه. يريد لما قام النبي، عليه السلام {يَدْعُوهُ} أي يدعو اللّه {كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} يعني الجنّ كادوا يلبدون به ويتراكبون، رغبة فيما سمعوا منه، وشهوة له.
ثم قال سبحانه لنبيه عليه السلام: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 21، 27] أي ارتضاء للنّبوّة والرّسالة، فإنّه يطلعه على ما يشاء من غيبه.
ثم قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] أي يجعل بين يديه وخلفه رصدا من الملائكة، يحوطون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة، حتى تخبر به الكهنة إخبار الأنبياء، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق، ولا يكون للأنبياء دلالة.
ثم قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28] أي ليبلّغوا رسالات ربهم. و(العلم) هاهنا مثله في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] يريد: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا تجاهدوا وتصبروا، فيعلم اللّه ذلك ظاهرا موجودا يجب به ثوابكم، على ما بينا في غير هذا الموضع.
في سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. هذا في يوم القيامة. يريد أنه إذا بعث النّاس من قبورهم خرجوا مسرعين، يقول اللّه سبحانه: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)} [المعارج: 43] أي يسرعون، إلّا أكلة الرّبا، فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ويسقط، لأنهم أكلوا الرّبا في الدنيا فأرباه اللّه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون، ويريدون الإسراع فلا يقدرون.
في سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} [الأحزاب: 72، 73].